الأربعاء، 27 مايو 2009

ليس في الدنيا ثبوت

هذه الدنيا ببريقها و زخرفها هل تدوم لإنسان مهما علا قدره أو زاد ملكه؟ لا...فلماذا يتناسى الناس هذه الحقيقة؟ إن كل شيء مصيره إلى زوال.. حتى الكلام لابد أن ينتهي لننعم بالسكوت و الهدوء.

و تلك الأملاك التي لا حدود لها .. لقد توارثتها الأجيال؛ ثم عبثت بها الأقدار فأصبحت أثراً بعد عين و لم يبق منها سوى أطلال و ذكرى بعيدة..

و هؤلاء الملوك و الحكام.. أين هم الآن؟ لقد تبدل الحال فانتقلوا من سعة القصور إلى ضيق القبور، من بريق الحياة إلى ظلمة الموت، و لن تنفعهم اليوم مناصبهم و لا ألقابهم التي قاتلوا لينالوها ثم جاهدوا ليحافظوا عليها، فلولا تزودوا بالتقوى.. فهي الزاد الحقيقي الذي يبقى بعد الجري و اللهاث على متاع الدنيا الفاني ... فلا تغتر بالباطل الزائل و تترك الخالد الباقي ..تلك هي حكمة السنين.

كل حي سيموت ليس في الدنيا ثبوت

حركات سوف تفنى ثم يتلوها خفوت
و كلام ليس يحلو بعده إلا السكوت
أيها السائر قل لي أين ذاك الجبروت
كنت مطبوعا على النطق فما هذا الصموت
ليت شعري أهمود ما أراه أم قنوت
أين أملاك لهم في كل أفق ملكوت
زالت التيجان عنهم و خلت تلك التخوت
أصبحت أوطانهم من بعدهم و هي خفوت
لا سميع يسمع القول و لا حيي صوت
عمرت منهم قبور و خلت منهم بيوت
خمدت تلك المساعي وانقضت تلك النعوت
إنما الدنيا خيال باطل سوف يفوت
ليس للإنسان فيها غير تقوى الله قوت


شعر: محمود سامي البارودى

اللقب: رب السيف و القلم

المدرسة الشعرية: مدرسة الإحياء

الثلاثاء، 19 مايو 2009

انتهز الفرص

الحياة فرص نادرة و العاقل حقاً هو من يتصيدها و يحسن استغلالها فهي طوق النجاة للخروج من رتابة الحياة العادية التي تتكرر دون أن تدفع بالإنسان إلى ما يريد؛ و هي الحصان الجامح الذي سينطلق به عابراً كل حواجز الزمن ليصل إلى أحلامه البعيدة، و ليغتنم الشباب عمرهم الثمين قبل أن يدركهم الكبر و تذهب عنهم الصحة ، و ليبادروا بالسعى و الجهاد في معركة الحياة ،و خير السعي ما كان في البكور فهو وقت البركة و توزيع الأرزاق فكيف ينعم فيه الإنسان بالنوم اللذيذ تاركا فرصا ذهبية للخير و الرزق الوفير؟

بادر الفرصة و احــذر فوتــها **** فبلوغ العز في نيــــل الفرص
و اغتنم عمــرك إبان الصبــــا **** فهو إن زاد مع الشــيب نقص
إنما الدنيـــــا خيــــــال عارض **** قلما يبقى و أخبــــــــار تقص
فابتدر مسعــــاك و اعلم أن من **** بادر الصيــد مع الفجر قنص
يكدح العــــــاقل فى مــــــــأمنه **** فإذا ضـــاق به الأمر شخص
إن ذا الحــاجة ما لم يغتــــــرب **** عن حماه مثل طير في قفص

و من الفرص التي يجب انتهازها الاستماع لنصح شيخ عجوز عليم بأحوال الدنيا و أهلها ؛ خبير بخباياها و أسرارها ، هذا الشيخ هو "محمود سامي البارودي"...

و اترك الحرص تعش في راحة **** قلما نال منـــــــاه من حرص
قد يضر الشيء ترجـــــــو نفعه **** رب ظمآن بصفو الماء غص
و احذر النمـــام تأمن كيــــــــده **** فهو كالبرغوث إن دب قرص
و اختبر من شئت تعـــــرفه فما **** يعرف الأخلاق إلا من فحص
هذه حكـــــــمة كهـــــل خــــابر **** فاقتنصها فهي نعـــم المقتنص

الأحد، 3 مايو 2009

لابد للقيد أن ينكسر

الحياة صعبة و لا مكان فيها للضعيف ، و ذوو الهمة فقط هم الذين يفوزون بالمكانة العالية و تعطيهم الحياة من ذخائرها و خيرها أما الذين يجبنون عن مواجهة الصعاب و يرتضون من العيش بأقله و يقنعون بحياة الكسل و الخضوع و الاستسلام لما يسمونه قدراً أو مكتوباً فإنهم المتواكلون و هم عبء على الحياة لذلك فهي تلفظهم و تتركهم في قاع المجتمع فللنجاح ثمن كبير ، و الطموح هو أكسير الحياة و هو الذي يدفع بالإنسان في هول الأخطار لكي يصل إلى غايته المنشودة و آماله البعيدة و لا سبيل إليها إلا ذاك السبيل.

و الإرادة هي السلاح الذي ينبغي للإنسان أن يتمسك به لمواجهة اليأس و الإحباط ، و إرادة الحياة الكريمة هي مطلب و حق طبيعي لكل البشر ، و لهذا فإن النتيجة الحتمية للإرادة و الكفاح هي تحقيق الحرية و انكسار كل القيود التي كانت تكبل الإنسان و تشل حركته في الحياة، هذه الأفكار هي قلب قصيدة الشاعر التونسي الكبير "أبو القاسم الشابى" المشهورة باسم "إرادة الحياة"

إذا الشّعْبُ  يَوْمَاً  أرَادَ   الْحَيَــاةَ       فَلا  بُدَّ  أنْ  يَسْتَجِيبَ   القَـدَر

وَلا بُـدَّ  لِلَّيـْلِ أنْ  يَنْجَلِـــــــــــــي       وَلا  بُدَّ  للقَيْدِ  أَنْ   يَـنْكَسِـــــر

وَمَنْ  لَمْ  يُعَانِقْهُ  شَوْقُ  الْحَيَـاةِ       تَبَخَّـرَ  في  جَوِّهَـا   وَانْدَثَـــــر

فَوَيْلٌ  لِمَنْ  لَمْ   تَشُقْـهُ   الْحَيَاةُ       مِنْ   صَفْعَـةِ  العَـدَم  المُنْتَصِـر

أبو القاسم الشابى استطاع بشفافيته و رقة إحساسه أن يحادث الكائنات من حوله فألهمته هذه الحكمة الغالية

كَذلِكَ  قَالَـتْ  لِـيَ  الكَائِنَـــــاتُ        وَحَدّثَنـي  رُوحُـهَا    المُسْتَتِر

وَدَمدَمَتِ  الرِّيحُ  بَيْنَ  الفِجَاجِ        وَفَوْقَ  الجِبَال  وَتَحْتَ الشَّجَر

إذَا مَا  طَمَحْـتُ  إلِـى  غَـــــايَةٍ       رَكِبْتُ   الْمُنَى  وَنَسِيتُ الحَذَر

وَلَمْ  أَتَجَنَّبْ  وُعُـورَ  الشِّعَـابِ       وَلا كُبَّـةَ  اللَّهَــــبِ   المُسْتَعِـر

لا خيار إما القمة أو القاع في هذه الحياة فأيها تختار؟

وَمَنْ  لا  يُحِبّ  صُعُودَ  الجِبَـالِ        يَعِشْ  أَبَدَ  الدَّهْرِ  بَيْنَ   الحُفَـر

فَعَجَّتْ  بِقَلْبِي   دِمَاءُ   الشَّبَـابِ        وَضَجَّتْ  بِصَدْرِي  رِيَاحٌ   أُخَر

و لما يحتار الإنسان يفزع إلى أمه كي تريح قلبه المضطرب و تنير بصره بالحقيقة ، هكذا سأل الشاعر أمه "الأرض" التي من طينها نشأ ، سألها باستنكار عن مشاعرها تجاه أبنائها البشر: فردت "الأرض" في شموخ و عطف بأن مشاعرها ليست واحدة لكل الناس فعلى قدر الطموح تكون المباركة أو اللعن

وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ - لَمَّا  سَأَلْتُ :       " أَيَـا أُمُّ  هَلْ تَكْرَهِينَ  البَشَــر؟

أُبَارِكُ  في  النَّاسِ  أَهْلَ  الطُّمُوحِ       وَمَنْ  يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ  الخَطَـــــر

وأَلْعَنُ  مَنْ  لا  يُمَاشِي  الزَّمَــانَ        وَيَقْنَعُ  بِالعَيْـشِ  عَيْشِ  الحَجَر

و لا عجب في ذلك فالكون كله منظومة واحدة ينبض بحب الحياة و لا مكان فيه لذوى النفوس الميتة.

هُوَ الكَوْنُ  حَيٌّ ، يُحِــــبُّ  الحَيَاةَ        وَيَحْتَقِرُ  الْمَيْتَ  مَهْمَا  كَـبُر

فَلا  الأُفْقُ  يَحْضُنُ  مَيْتَ  الطُّيُورِ        وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَــر

و مع ذلك فقلب الأم لا ينغلق في وجه أبنائها مهما عصوا و شردوا فلابد يوماً أن تضمهم بدافع الأمومة حتى و إن لم يكونوا أهلاً لهذا العطف.

وَلَـوْلا   أُمُومَةُ    قَلْبِي   الرَّؤُوم        لَمَا ضَمَّتِ  المَيْتَ تِلْكَ  الحُفَـر

فَوَيْلٌ لِمَنْ  لَمْ  تَشُقْـهُ   الحَيَـاةُ        مِنْ   لَعْنَةِ   العَـدَمِ   المُنْتَصِــر!

و ختاماً كان الإعلان الأخير:

وَأَعْلَنَ  في  الْكَوْنِ  أَنَّ   الطُّمُوحَ        لَهِيبُ الْحَيَـاةِ  وَرُوحُ الظَّفَــر

إِذَا   طَمَحَـــتْ   لِلْحَيَاةِ    النُّفُوسُ        فَلا  بُدَّ  أَنْ  يَسْتَجِيبَ  الْقَـدَرْ

تعرض أبو القاسم الشابي لمأساتين في حياته: الأولي عند وفاة والده و هو لا يزال في العشرين من عمره و تحمل حينئذ مسئولية أسرته الصغيرة و الكبيرة ، أما المأساة الأخرى فهي إصابته بداء القلب الذي أذاقت قلبه الدافئ الرقيق ألواناً من الألم حتى توفى متأثراً بمرضه.

لقد كان شاعراً موهوباً عاشقاً لوطنه قلبه مملوء بالأمل و الحب للحياة و أحبته الأرض فضمته في ثراها مبكراً ليرقد فيها بعدما ألبسها ثوب الحياة فى حواره البديع معها ، تلك الحياة التي عاش فيها خمساً و عشرين عاماً فقط هي سنوات حياته القصيرة و لكن ما أغلاها من سنوات أثمرت كلمات خلدت ذكراه لمحبي الحرية و الحياة في كل مكان.