الشباب نعمة لا يشعر بها إلا الشيوخ الذين تقدمت بهم السن و ووصل بهم قطار العمر إلى محطته الأخيرة حيث يتذكر العجوز أيام صباه الجميلة و أنى له الذكرى؟ هل تعيد من الماضي شيئاً سوى الحسرة و التنهدات الأليمة؟ ،فالشيخوخة ضعف يجعل الجسم كله متهالكاً لا يكاد يقوى على شيء: وجهه ينطق بملامح العجز و الكبر، رؤيته للأشياء من حوله ضبابية لا يكاد يميز الوجوه ,أما الأصوات فكأنها آتية من آخر الدنيا ، فإذا أراد القيام من مجلسه جذبه مرة أخرى؛ فليس لديه عزم النهوض و الحركة، و أحزان الشيوخ جبال راسيات فإن طول العمر يشهدهم وفاة الأهل الواحد تلو الآخر و زوال الأحبة أشد وقعا على النفس من انكسارها بين يدي العجز و الوحدة.
نأسف عند سماع خبر موت أحدهم و هو في ريعان شبابه و لا نعلم أنه الله قد وقاه إحساس ذلك الشيخ العجوز الفاني الذي يتمنى الموت ليريحه من عذابه ..فهلا رأينا حكمة الله و تصريفه للأمور و نشكره في كل الأحوال.
أين أيام لذتي و شبابي أتراها تعود بعد الذهاب
ذاك عهد قد مضى و أبعد شيء أن يرد الزمان عهد التصابي
فأديرا على ذكراه إني منذ فارقته شديد المصاب
كل شيء يسلوه ذو اللب إلا ماضي اللهو في زمن الشباب
كيف لا أندب الشباب و قد أصبحت كهلا في محنة و اغتراب
أخلق الشيب جدتي و كساني خلعة منه رثة الثياب
و لوى شعر حاجبي على عيني حتى أطل كالهداب
لا أرى الشيء حين يسنح إلا كخيال كأنني في ضباب
و إذا ما دعيت حرت كأني أسمع الصوت من وراء حجاب
كلما رمت نهضة أقعدتني وينه لا تقلها أعصابي
فجعتني بوالدي و أهلي ثم أنحت تكر في أترابي
كل يوم يزول عنى حبيب يا لقلبي من فرقة الأحباب
*محمود سامي البارودي*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق